الجمعة، 11 أبريل 2014

الحركات الاجتماعية والصراع الإيديولوجي

    سنحاول من خلال هذه الورقة في إطارها العام، أن نعالج إشكالية مهمة ترتبط بالحركات الاجتماعية والصراع الإيديولوجي الذي يتم ممارسته من طرف سماسرة العنف السياسي من داخل أية حركة احتجاجية ترفع مطالب اجتماعية، حيث غالبا ما يكون الغرض من هذا الصراع هو توجيه الحركة نحو أهداف تتعلق بما هو سياسي بالدرجة الأولى، وهي اشكالية واقعية تميز الحركات الاجتماعية في عالمنا العربي. ولا يخفى على أحد أن الصراع الإيديولوجي هو عامل سلبي يؤثر على الحركة الاجتماعية كيفما كانت. كما أنه عامل مهم في عدم تقدمها وتطورها إلى قوة تنظيمية، وفي انتزاع حقوقها.

    لقد علمنا التاريخ أنهم يكرهون ويحاربون بكل قوة من لا يشبههم وليس على إيديولوجيتهم، من يحمل عقلا حرا أحق بالشك من إبراهيم، خصوصا عندما يكتشف هذا العقل أن مقدسهم غير مقدس وأن أفكارهم متحجرة وقديمة وانتهازية. فما يميز العقل الحر أنه واعي بذاته لا يقبل بالأحكام المسبقة والأفكار الجاهزة، فهو يرى الأشياء بشكل مغاير ومختلف عن ما هو سائد وشائع بين الجماعة المؤدلجة. وهذا العقل غالبا ما ينظر إليه من طرف هؤلاء على أنه أشد الأعداء كونه يهدد مصلحتهم ومجال اختصاصهم ونفوذهم في المجتمع. فأشباه هؤلاء يخافون من شيء اسمه التجديد والتحديث والتغيير. وحينما يعبر هذا العقل الحر عن أفكاره يتعرض بالضرورة للإقصاء والتهميش والتهديد، لأن العقول المؤدلجة التي تنتمي إلى سماسرة العنف السياسي هي عقول جامدة، اعتادت على الكسل وعلى رفضها للأفكار الجديدة.

    وما يلاحظ وما يعاب على الحركات الاجتماعية في العالم العربي أنها لا تستطيع احتواء وضبط كل المكونات والتيارات المؤدلجة. فهناك فئة من هذه المكونات والتيارات لديها أغراض ومصالح سياسية ولا تهتم بما هو اجتماعي، حيث تحاول أن تستغل ظهور أية حركة اجتماعية للركوب عليها كي تقودها وتوجهها لأهدافها ومصالحها الخاصة، وهذه الفئة يمكن أن نسميها ب"سماسرة العنف السياسي". وهي فئة انتهازية تتميز بالمكر والخديعة وتتبنى العنف الرمزي والمادي معا كخيار للهيمنة وللوصول إلى السلطة، ودائما ما تعمل على استفزاز الحركة، وتهديدها وتحميلها المسؤولية في حالة رفض تواجدها من داخل الحركة الاجتماعية، نظرا لأنها تحاول فرض سيطرتها عبر استحضار ما هو ايديولوجي في النقاش الاجتماعي ــ العمومي؛ أي حينما تقوم بتمرير خطابات ايديولوجية تتعارض بشكل واضح مع مبادئ وأهداف الحركة الاجتماعية. وهذه الفئة تمثل أعداء الحركة لأنها تحاول إجبار وتوجيه الجماهير المساهمة في الاحتجاج على شيء لا يريدونه ويرفضونه. إذ تسعى بكل الوسائل والخيارات التي تتيح لها إلى تبرير مشروعيتها من داخل الحركة حتى ولو تطلب الأمر إلى إثارة الفوضى، فالغاية هنا ليس جوهر الحركة الاجتماعية باعتبارها حركة احتجاجية تعبر عن أزمة أو عن خلل في النسق الاجتماعي، وإنما استغلالها كمورد بشري  لتحقيق مجموعة من الأهداف والمصالح التي ترتبط أساسا بما هو سياسي. إلى جانب ذلك، أنها تهدف كلما سنحت لها الفرصة إلى خلق البلبلة في صفوف الجماهير المحتجة عبر افتعال المشاكل واستثمار أبسط وأتفه الأسباب من أجل تضخيمها، محاولة بذلك زعزعة تقدم الحركة، ومنعها من التطور إلى قوة تنظيمية خوفا من أن تهدد هذه القوة مصالحها وأهدافها وتنافسها في المستقبل.

    ويلاحظ من داخل الحركات الاحتجاجية أن الجماهير المشاركة في الاحتجاج والتي ترفع مطالب اجتماعية في النقاش الاجتماعي ــ العمومي أنها تخشى من الوقوع في الخطأ، ومن أن تدخل في صراع إيديولوجي مع أحد المكونات أو التيارات التي لها امتداد تاريخي. لذلك نجد أنها في كثير من الأحايين تخشى أن تقود نفسها لكي لا تتحمل المسؤولية، الشيء الذي يجعلها تتراجع عن أداء مهامها في الوقت الذي يتطلب منها أن تكون مسؤولة ومنسجمة من حيث الأهداف والغايات والشعارات التي ترفعها، ثم صامدة ضد أية محاولة لإضعافها حتى لا تعطي المجال لاستغلالها. أما إذا تراجعت الجماهير في تحمل المسؤولية، فإن هذا التراجع يصبح عاملا مهما في إعطاء المجال لسماسرة العنف السياسي في قيادة الجماهير والعمل على استغلالها من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها، خاصة عندما تشهد الحركة الاجتماعية في مرحلة زمكانية (الزمان/المكان) معينة نوع من الاضطراب والصراع الإيديولوجي بين المكونات والتيارات التي تساهم بدورها في حركة الاحتجاج. وهذا ما يؤدي بالحركة إلى الخروج عن مسارها الصحيح، ويعرضها للخطر ويجعلها فريسة سهلة للانقضاض عليها من قبل القوى المادية للدولة (الجهاز القمعي) في حالة ما إذا كانت هذه الحركة تعرف صراعا إيديولوجيا بين المكونات والتيارات التي ترى في الحركات الاجتماعية بشكل عام أفضل وسيلة لتمرير بعض الرسالات السياسية للدولة. إضافة إلى أن الصراع الإيديولوجي على ما يظهر في العالم العربي يساهم في اختراق الحركة، ويتم مباشرة إلى إضعافها والدفع بها إلى طريق مجهول وأحيانا طريق مسدود بسبب هذا الصراع الذي لا يخدم أهداف الحركة الاجتماعية، وإنما يخدم أعدائها ويلعب دورا سلبيا في عدم انسجامها وفي تشتيتها وتفكيكها.

    ويعد الانتصار للإيديولوجيا أهم انتصار عند سماسرة العنف السياسي. إنه أهم من تحقيق أهداف ومصالح الحركة الاجتماعية، لذلك يعتبر تبني الفرد لإيديولوجية دينية أو سياسية في علم النفس الاجتماعي هو تبني عن غير وعي وإدراك. فالإيديولوجيا يتم تبنيها من قبل الفرد بشكل عاطفي، وليس عن وعي، ويتم الدفاع عن الإيديولوجيا وتبريرها بشكل عاطفي وليس عن وعي أيضا، ويرجع الأمر إلى انتماء الفرد إلى الجماعة والتشبع بأفكارها. إذ إن انتماء الفرد لجماعة مؤدلجة سواء أكانت دينية أو سياسية، تؤثر على تصوره للعالم وما يحيط به. فالجماعة المؤدلجة كما هو معلوم في علم النفس الاجتماعي لا تقبل من يخرج عنها في تصورها للعالم بالرغم من حملها لشعارات كبيرة كالديمقراطية والحرية والحوار الحضاري وغيرها من الشعارات التي تبقى في الأخير شعارات زائفة وهمية لا حقيقة لها على أرض الواقع. كما أن الفرد المؤدلج لا يستطيع الخروج عن ما هو سائد وشائع من داخل الجماعة التي تحتضنه نتيجة تأثره بأفكارها وبمبادئها، لأنه يكون في مرحلة معينة قد آمن بهم وآمنوا به. فالعملية هنا أشبه باغتيال العقل، لأنه يحول العقل الحر إلى عقل مؤدلج.

    لهذا نجد في أية حركة احتجاجية ترفع مطالب اجتماعية نوع من الصراع الايديولوجي بين مجموعة من المكونات والتيارات التي تريد أن تتزعم الحركة والركوب عليها وتوجيهها، وهذا ما يسبب فشلها في تحقيق مطالبها وانتزاع حقوقها، فعدو الحركات الاجتماعية الذي يتجسد في الجهاز القمعي والإيديولوجي للدولة كثيرا ما يلعب على هذه النقطة ويركز عليها بدعوى أنها حركة تهدد النظام العام للمجتمع أو أنها حركة تخريبية أو شيء من هذا القبيل. لذلك نقول، إن "نجاح الحركات الاجتماعية رهين بتجاوز الصراع الإيديولوجي والقطع معه" إذا أرادت أن تنتزع حقوقها وتحقق أهدافها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق