الثلاثاء، 10 سبتمبر 2019

كتاب "المستقبل واقعا ثقافيا. مقلات عن الظرف الكونى" لـ جون أيادوراى ترجمة طلعت الشايب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2016.

"لا تزال البنية الأساسية للأنثروبولوجيا تتشكل من خلال عدسة الماضى، إذ بالرغم من عدم تجاهل علماء الأنثروبولوجيا التام لمختلف الأساليب التى واجهت بها الإنسانية المستقبل وتوقعته كأفق إنسانى؟، فإن تلك اللحظات والرؤى لم تتجمع وتتبلور بعد فى وجهة نظر عامة عن البشر باعتبارهم صناع المستقبل". نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن الثقافة التي ينظر إليها منظروها والمعنيون بها بعدسة الماضي كذلك، كموروثات وآثار وبقايا وذاكرة تاريخية، حتى وإن اعتبروها في الوقت نفسه نسيجا للتفاهمات اليومية ومنتجا للفنون والآداب ومختلف أشكال التعبير الإنساني.
يرى مؤلف الكتاب، وهو واحد من أبرز علماء الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الثقافي ضرورة ملحة لأن تكون المستقبلية وليس الماضوية في الصميم من اهتمام الأنثروبولوجيا الثقافية أو "أنثروبولوجيا المستقبل". فالمستقبل الأفضل الذى ينشده البشر، وفقراء العالم والمجتمعات العشوائية في المدن الكبرى بخاصة، ممن دهستهم أفيال العولمة والرأسمالية الحديثة، لن يتحقق من خلال استحضاره كواقع ثقافي، يشارك أصحاب المصلحة الحقيقة، ضحايا الأسواق والتسليع والعنف، في تصوره وإعمال خيالهم وتنمية قدراتهم على الطموح الذى هو جزء أساسي من المستقبل باعتباره واقعا ثقافيا.
رابط التحميل: https://cutadlink.com/CXYgpGGI

الجمعة، 15 سبتمبر 2017

محمد المرجان: عالم اجتماع عمومي

     من هو محمد المرجان؟ محمد المرجان هو أستاذ باحث في علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، يعتبر من الباحثين الذين اهتموا بالدراسات الكولونيالية بالمغرب، وخصوصا الإسبانية منها، حيث يعد مرجعا مهما في فهم طبيعة هذه الدراسات الكولونيالية الإسبانية بالمغرب إلى جانب المختار الهراس في الشمال ومحمد دحمان ورحال بوبريك في الجنوب.
     التحق الأستاذ محمد المرجان بشعبة علم الاجتماع قادما من تطوان مسقط رأسه في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وقد حصل على دبلوم الدراسات العليا سنة 1988 في موضوع: "تطور علاقة تطوان بقبيلة الحوز من 1900 إلى 1956: نحو مقاربة سوسيولوجية" من جامعة محمد الخامس، كما حصل على دكتوراه الدولة في علم الاجتماع سنة 2005 من نفس الجامعة في موضوع: "مقاربة سوسيولوجية للمعرفة الكولونيالية الإسبانية شمال المغرب: 1860 ـ 2002".
     إن اهتمام الأستاذ محمد المرجان بالدراسات الإسبانية لم تمنعه من مساءلة الدراسات الكولونيالية الفرنسية، فالمقربين منه يدركون أن الأستاذ محمد المرجان من الباحثين الذين انفتحوا على كل من الدراسات الفرنسية والدراسات الأنجلوسكسونية التي اشتغلت على المغرب، فهو لم يكتف فقط بالانفتاح عليها وإنما مارس النقد وعمل على تفكيكها في مجمل دروسه ومحاضراته ومقالاته.
     يرى الأستاذ محمد المرجان أنه لفهم التغيرات الاجتماعية وتعقيدات الواقع التي يشهدها المجتمع المغربي لابد من الانفتاح على باقي العلوم والعودة إلى التاريخ دائما، فالباحث في علم الاجتماع لا معنى له بدون معرفة تاريخية للمجتمع المغربي، ويؤكد كذلك على أن السوسيولوجي هو الباحث عن المعرفة في الضفاف الأخرى حتى وإن كانت تلك المعرفة من الأمم والشعوب المختلفة عنا في الدين أو في الثقافة بشكل عام، ولهذا تجده من السوسيولوجيين المغاربة الذين لهم دراية ومعرفة بالسوسيولوجيا الإسرائيلية بعد عبد الكبير الخطيبي، فهو من الباحثين العاشقين لقراءة الآخر باللغتين الفرنسية والإسبانية، كما أنه يتميز بانفتاحه على  تخصصات أخرى كالفلسفة والأدب والأنثروبولوجيا والتاريخ.
     محمد المرجان هو ذلك الإنسان الذي تجده دائما ما يحوم حوله العديد من الطلبة نظرا لتواضعه والتزامه المعرفي، فهو دائم الإنصات إلى الطلبة ولا يبخل على طلابه في تقديم المعرفة السوسيولوجية التي يحتاجونها، فهو بلا شك يعد مكسبا للجامعة المغربية وجامعة ابن طفيل بالدرجة الأولى. والقريبين منه يدركون أنه من الأساتذة الباحثين الملتزمين بالدرس السوسيولوجي العميق في قضايا اجتماعية معاصرة، فمنذ أن وضع قدمه بالجامعة وهو يستحضر في درسه السوسيولوجي علماء اجتماع مغاربة قصد التعريف بمنجزاتهم وأعمالهم كبول باسكون، عبد الجليل حليم، عبد الكبير الخطيبي، محمد جسوس، المختار الهراس، ادريس بنسعيد، فاطمة المرنيسي وغيرهم.
     والمتتبع لمسار الدرس السوسيولوجي للأستاذ محمد المرجان بجامعة ابن طفيل يعلم أنه من أوائل الأساتذة الباحثين الذين عملوا على تدريس طلبة السوسيولوجيا بجامعة ابن طفيل عدة تخصصات مثل: سوسيولوجيا المدينة وسوسيولوجيا التحولات الاجتماعية ونصوص محمد جسوس وسوسيولوجيا برنار لايير وسوسيولوجيا المجال، إضافة إلى سوسيولوجيا الخبرة، والتي أولى لها أهمية كبير في السنوات الأخيرة، إذ يميز بين نوعين من الخبراء في السوسيولوجيا: النوع الأول هو الخبير اللامسؤول الذي يقدم المعرفة لمن يدفع أكثر ولا يستحضر الرؤية السياسية ولا يتفاعل مع الإشكالات المطروحة في المجتمع، والنوع الثاني هو الخبير المسؤول أو بتعبير المرحوم محمد جسوس "السوسيولوجي المناضل" الذي يحترم مبادئ الديمقراطية ويؤمن خلال ممارسته العلمية بجدلية العالم والسياسي ويحاول أن يقترب من الموضوعية من خلال تعبيره عن هموم المجتمع تعبيرا صادقا...إلخ.
     إن محمد المرجان هو ذلك الإنسان العالم والمربي عند طلابه، إنه دائما ما يقدم إلى طلابه في محاضراته نماذج في ممارسة علم الاجتماع أمثال: "روجي باستيد، مانويل كاستلز، آلان تورين، بيير بورديو، برنار لايير ولوك بولتنسكي"، وهو الغيور على مهنة عالم الاجتماع عند زملائه وأصدقائه، فشرعية السوسيولوجيا بالنسبة إليه لا تأتي إلا من خلال السوسيولوجيين أنفسهم. فقد عمل الأستاذ محمد المرجان بتفان على أساس النظر إلى أن رسالة السوسيولوجيا هي خدمة المجتمع وذلك بالتدخل فيه، من حيث مساعدة المجتمع على الارتقاء وإنتاج نفسه ومواجهة تحديات السوق وضغط الدولة، فمساهمات الأستاذ عبر مساره العلمي واضحة التأثير بأعمال بيير بورديو وآلان تورين ومانويل كاستلز وهنري لوفيبر وروجي باستيد.
     ويمكن القول، إن مغامرة الأستاذ محمد المرجان في الحقل العمومي تجسدت من خلال المجتمع المدني والوسائط الإعلامية والإلكترونية، وصنع السياسات العمومية، الشيء الذي يدل على روح السوسيولوجيا العمومية لديه. فهو إلى جانب زملائه وأصدقائه أمثال عمر بنعياش وعبد الله محسن ومحمد الشهب وعمار حمداش وغيرهم علماء اجتماع عموميين، فقد منحت نظرية هابرماس حول المجال العام عند الأستاذ محمد المرجان هوية جديدة تسمي وجوده السوسيولوجي تحديدا، ما انعكس ذلك على حياته الفكرية والاجتماعية وتحوله إلى عالم اجتماع عمومي بامتياز، ولا شك أن ترأسه للجمعية المغربية لعلم الاجتماع خلفا للمرحوم محمد جسوس إنما هو دليل على روح العمومية لديه، نظرا لوعيه بأهمية وصعوبة الممارسة السوسيولوجية بالمغرب، والتي تحتاج بطبيعة الحال إلى تعاون كل من يحمل هموم هذا الحقل المعرفي قصد تبادل التجارب والخبرات بهدف تطوير الممارسة السوسيولوجية بالمغرب، وذلك بعيدا عن كل الرهانات أو الحسابات التي من شأنها أن تعيق تطور حرفة عالم الاجتماع بالمغرب، وهو ما يجعله دائما ما ينتصر للعمل الجماعي على حساب العمل الفردي، باعتبار أن العمل الجماعي هو جوهر الاشتغال السوسيولوجي في عالمنا المعاصر.
     هذا ويؤكد الأستاذ محمد المرجان في أكثر من مناسبة أنه يجب على الدولة أن تنفتح أكثر على السوسيولوجيا كونها تمثل أحد أهم التخصصات العلمية الممكن توظيفها في مجال التنمية للمجتمع المغربي والارتقاء به نحو مصاف المجتمعات المتقدمة، لأن المقاربة السوسيولوجيا عند الأستاذ محمد المرجان هي محاولة للتدخل، تستهدف البحث عن القوانين الناظمة للظاهرة وكذا آليات اشتغالها وأشكال تطورها حريصة في كل ذلك على تحقيق العناصر التالية: التشخيص ـ النقد ـ المعالجة ـ التوجيه. كما يؤكد أن السوسيولوجيا بالمغرب لا يفترض فيها أن تكون منغلقة على ذاتها وحكرا فقط على الجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي، وإنما يجب أن تجد لها مكانا بين المجتمع لكي تلامس الواقع الاجتماعي في الحياة اليومية عند الأفراد. فالسوسيولوجيا بالنسبة إلى الأستاذ محمد المرجان هي النظر في المجال العمومي بهذا المعنى.
     ويتمثل دور السوسيولوجي عند الأستاذ محمد المرجان في ممارسة حرفة القلم والورق، فعن طريق الكتابة، فإن السوسيولوجي يعبر بذلك عن وجوده حتى وإن تم رفضه من طرف السياسي.
     وفي هذا السياق، فإن الأستاذ محمد المرجان له حوارات ومقالات عديدة نشرت في صحف وطنية كما له مقالات محكمة منشورة في المجلات الوطنية والعربية كمجلة سياسات الهجرة ومجلة إضافات ومجلة المستقبل العربي، ومن أشهر مقالاته نجد: "المدلول الاجتماعي للمقاومة وجيش التحرير بالمغرب"، "علاقة الهوية بالدين الشعبي"، "مفهوم الديموقراطية في وعي التلاميذ"، "الجامعة المغربية مشروع وطني غير مكتمل". إضافة إلى ذلك، له مساهمات في كتب جماعية ومحاضرات علمية على المستوى المحلي والوطني. ومن أهم مؤلفاته نجد: "مقاربة سوسيولوجية لآليات التغيير الاجتماعي بشمال المغرب" وهو مؤلف صدر عن منشورات جمعية تطوان أسمير في سنة 2004، ثم "الرحلة والمعرفة الكولونيالية: المغرب بعيون الرحالة الإسبان خلال القرن التاسع عشر الميلادي" والذي صدر عن دار أبي رقراق في أواخر سنة 2016.

     وفي ختام القول، فإن محمد المرجان هو ذلك الإنسان المتواضع والخجول والمحب لكل من أساتذته وزملائه وأصدقائه وطلبته، والملتزم بحرفة عالم الاجتماع، فهو دائم السؤال والتفكير والتحليل والنقد، إنه ذلك الباحث الذي يبحث عن المعنى والعالم الذي يعيش من أجل سوسيولوجيا عمومية وطنية. 

عمار حمداش، المنشغل دائما بالسوسيولوجيا




     لا شك أن عمار حمداش هو واحد من أهم الأساتذة الباحثين في علم الاجتماع في جامعة ابن طفيل بالقنيطرة وأحد أعمدة الفكر السوسيولوجي بالمغرب، فهو ينتمي إلى جيل السوسيولوجيين المغاربة الذين طبعوا مسارهم العلمي على مستوى المحلي والوطني والعربي أمثال ادريس بنسعيد، مصطفى محسن، محمد الدهان، عبد الرحيم العطري، حسن أحجيج، حيث يصفه زملاءه من أهل الاختصاص بالعالم الدقيق، نظرا لكونه دائم البحث والتدقيق في كل ما يرتبط بالظاهرة الاجتماعية على مستوى الموضوع والمنهج، فهو من المهتمين بتطوير البحث السوسيولوجي بالمغرب خاصة على مستوى المناهج العلمية وأدوات البحث.
     وقد ولد عمار حمداش بمدينة مكناس في سنة 1958، حيث تابع حياته الدراسية بنفس المدينة، وبعد حصوله على شهادة البكالوريا طرح أمامه عرضا مغريا لكي يتابع دراسته في الخارج، نظرا لتفوقه في الدراسة وتمكنه من اللغات الأجنبية مبكرا، إلا أنه اختار البقاء في الوطن ليشد الرحال إلى جامعة محمد الخامس بالرباط حيث سيلتحق بشعبة علم الاجتماع رغبة منه في فهم المجتمع المغربي والإجابة على سؤال التنمية في المجتمع القروي، وهو الأمر الذي كان له تأثير عليه في اختياره لموضوع: «التحولات الاجتماعية وإشكالية تحديث المناطق القروية بالمغرب: دراسة ميدانية لمنطقة سيدي يحيى الغرب» من أجل نيل شهادة دبلوم الدراسات العليا تحت إشراف المرحوم محمد جسوس في سنة 1995.
     ويعتبر الباحث عمار حمداش من أوائل مؤسسي مسلك علم الاجتماع ضمن شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة ابن طفيل القنيطرة مع كل من خديجة أميتي وعبد الله محسن ونور الدين الزاهي وعبد الرحيم العطري ومحمد المرجان ومحمد دحمان. وقبل أن يلتحق بالجامعة فقد كان مدرسا للفلسفة والفكر الإسلامي بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، واشتغاله كمدرس للفلسفة لم يمنعه من الانشغال بالبحث السوسيولوجي، بل زاده حبا والتزاما في ممارسة حرفة عالم الاجتماع الذي تعلمه من المرحوم محمد جسوس أثناء تكوينه في جامعة محمد الخامس بالرباط.
     يتميز الباحث عمار حمداش كغيره من الباحثين الذين تتلمذوا علي يد المرحوم محمد جسوس بانفتاحهم على تخصصات أخرى كالفلسفة وعلم النفس والأنثروبولوجيا وتركيزهم على التاريخ خاصة التاريخ الاجتماعي، ففي نظر الباحث عمار حمداش لا يمكن فهم الظاهرة الاجتماعية في آنها فقط وإنما يجب التعامل معها في تاريخ نشأتها وتطورها، من خلال اعتماد الباحث على السيرة الذاتية والوثائق التاريخية كالمخطوطات وكل ما يمكن أن يقرب الباحث من فهم الظاهرة الاجتماعية في بعدها التاريخي والثقافي والاقتصادي والسياسي.
     أما بالنسبة إلى الدرس السوسيولوجي الذي يقدمه الأستاذ عمار حمداش أمام طلبة علم الاجتماع بالقنيطرة، فهو درس لا يختلف فيه أي أحد منا بأنه أشبه بكتاب مفتوح في بحر العلوم الاجتماعية والإنسانية، فهو درس الدرس بتعبير بيير بورديو لكونه يهدف أساسا إلى تمكين الطالب والطالب الباحث خصوصا من القدرة على ممارسة البحث السوسيولوجي وتعميق فكره المعرفي عبر استحضار ما يسمى بالعلم الاجتماعي (الأنثروبولوجيا، التاريخ، السوسيولوجيا) وتسخيره علميا بهدف الفهم والتفسير، فالدرس الذي يقدمه الأستاذ عمار حمداش يلح فيه دائما إلى أن المعرفة السوسيولوجية هي بناء وتنظير ورصد للتغيرات الاجتماعية التي تعرفها المجتمعات الإنسانية كالمجتمع المغربي.
     إن الحديث عن الباحث عمار حمداش هو أيضا حديث عن تصوره وتمثله للممارسة السوسيولوجية بالمغرب، فهو يؤكد بأن دور المعرفة العلمية التي ترتبط بالحقل السوسيولوجي أو بأي حقل آخر ينتمي إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية إنما يكمن أساسا في خدمة المجتمع، فالمعرفة السوسيولوجية على سبيل المثال، لا يمكن أن تبقى حبيسة الجدران وإنما هدفها هو التدخل الاجتماعي وخدمة ما هو اجتماعي بالدرجة الأولى، وهذا ما تؤكده لنا ممارسته العلمية حيث ساهم في إنجاز عدد من دراسات الخبرة والاستشارة العلمية حول مجموعة من القضايا الاجتماعية مثل: (الأطفال في وضعية الشارع ـ التحرش الجنسي عند النساء ـ الوساطة الأسرية ـ تنظيمات المجتمع المدني ...إلخ).
     ويرى الباحث عمار حمداش في أكثر من مناسبة بأن التدخل الاجتماعي يشترط فيه الموضوعية نحو كل ما هو اجتماعي، حيث تستوجب من هذه الموضوعية أن تكون باردة وذات معنى بخلاف ما يعبر عنه آلان تورين بأن الموضوعية الباردة تتعارض بشكل كبير مع حرارة الحركات الاجتماعية. كما يرى الأستاذ عمار حمداش أن من معيقات البحث السوسيولوجي في المغرب هو الاشتغال الفردي للباحث، فالأمر بالنسبة إليه ليس كافيا إن صح التعبير في تطوير الممارسة السوسيولوجية بالمغرب على الرغم من كل التضحيات والمجهودات الجبارة التي يقوم بها الباحث أثناء البحث الميداني، مما يجعله يؤكد أن الاشتغال ضمن إطار الجماعة العلمية، وتشجيع وتمويل وتمكين هذا الإطار العلمي عبر الجامعات ومعاهد البحث العلمي والمؤسسات الحكومية والتنظيمات غير الحكومية هو ما يمكن أن يخدم السوسيولوجيا في المغرب منطلقا من تجارب غربية ومن التجارب التي عرفتها بعض البلدان المغاربية في مرحلة الاستعمار، خصوصا في عهد الحماية الفرنسية بالمغرب كإنشاء مؤسسات علمية وتكوين مجموعة من الباحثين وإنشاء فرق علمية ساهمت في إنجاز العديد من الدراسات والأبحاث ذات الطابع الإثنوغرافي والتي كان لها دور في عملية التحديث بالمغرب على الرغم من الصبغة الاستعمارية التي ميزتها في تلك المرحلة.
     أما أعمال الأستاذ الباحث عمار حمداش فإنها تتميز بالكثرة والتنوع، وتتوزع على مجموعة من المجلات الوطنية والعربية في معظمها محكمة، وأيضا له أعمال ضمن الكتب الجماعية الصادرة عن مجموعة من المؤسسات الجامعية ومراكز البحث بالمغرب، يمكن أن نذكر منها: «وضعية البحث السوسيولوجي في الوطن العربي»، و«تطور مفهوم الغرب في التقسيم الإداري للتراب الوطني»، و«العرض والقبيلة» و«ميلاد زعامة سياسية ونهاية تمثيلية روحية»، إلخ. كما له حوارات ولقاءات مع مجموعة من المنابر الإعلامية، ومن أهم إصداراته كذلك نجد: «تقنيات البحث السوسيولوجي» الذي صدر عن سلسلة دفاتر طالب علم الاجتماع سنة 2006، وكتاب «بقايا من ثقافة الرمى: مساهمة في الثقافة الشعبية» الذي صدر في سنة 2013، وكتاب آخر بعنوان «حول تجارب التحديث القروي بالمغرب مع بيان من أجل البوادي المغربية» الذي في سنة 2015.

     في النهاية، من يتعرف على الأستاذ عمار حمداش سيجده إنسانا بسيطا متواضعا منشغلا بهموم المجتمع المغربي، ودائم التفكير والسؤال حول التنمية القروية وعاشقا للقراءة ومهتما بالتفاصيل الدقيقة، ومحبا لزملائه ورفاقه وخير رفيق في المعرفة لدى طلبة علم الاجتماع، ومشجعا لهم على البحث واقتناء المعرفة بشكل عام والمعرفة السوسيولوجية بشكل خاص، وعلى الرغم من انتمائه إلى علم حورب كثيرا من طرف السياسيين منذ إغلاق معهد العلوم الاجتماعية، فإنه يبقى متفائلا حول مستقبل السوسيولوجيا إيمانا منه أن الأجيال القادمة من الباحثين ستعيد للسوسيولوجيا قيمتها ومكانتها التي تستحقها في مجتمع بدأ أخيرا ينفتح قليلا على السوسيولوجيا.

السبت، 27 مايو 2017

مقاربة سوسيولوجية لآليات التغيير الاجتماعي بشمال المغرب"، تأليف محمد المرجان


كتاب "مقاربة سوسيولوجية لآليات التغيير الاجتماعي بشمال المغرب"، تأليف محمد المرجان، منشورات جمعية تطوان أسمير، مطبعة الخليج العربي ـ تطوان، الطبعة الأولى 2004.
تخضع عملية تحليل المجتمعات ـ في الغالب ـ لرؤيتين متعارضتين ظاهريا، وذلك حسب تأملنا لتراتباتها، لعناصر تماسكها، لاستمراريتها، وعلى العكس لإمكانات تحولاتها أو تغيراتها البنيوية. 
وهذه الثنائية المتولدة بدورها عن قراءتين للواقع الاجتماعي: الأولى تراها في أقصى تعبيراته مرتبطا بماضيه، بتراثه وتقاليده. والثانية تركز أساسا على الصيرورات المحددة لتغيره، والتي تؤدي على المدى البعيد إلى إحداث ثورة أو تحول في مساره.
إلا أن غاية هذه الدراسة هي التجاوز المنهجي لهذه الثنائية عبر التركيز على الديناميكيات والآليات الخاصة بمنطق التغير الاجتماعي بمعناه العام والذي يقتضي الجمع بين الرؤيتين في إطار حركي متماسك، ننتقل فيه من الماضي إلى الحاضر، ومن الخاص إلى العام، ومن المحلي والإقليمي إلى الوطني. ومن هذا المنطلق يتعرض الكتاب لدراسة التغير والاستمرار باعتبارهما عمليتين متكاملتين، داخل نسق اجتماعي وسياسي وثقافي يتميز باختلال التوازنات مع استمرارية نسبية للبنيات الأساسية، ذلك أن المجالين التاريخي والجغرافي اللذين فضاء هذا البحث وأفقه <تطوان وضواحيها>. يندرجان في إطار معرفة يشكلان سوسيولوجية تسعى إلى الكشف عن مختلف الديناميكيات التي ساهمت في ظهور تغيرات محلية ـ على وجه الخصوص ـ ومدى ارتباطها بالمكونات العامة للمجتمع....

مقتطف من تقديم الأستاذ: د. محمد المرجان.



السبت، 9 أبريل 2016

حول سوسيولوجيا آلان تورين





يعتبر آلان تورين Alain Touraine (عالم اجتماع فرنسي من مواليد عام 1925م.) أحد أهم المنظرين في السوسيولوجيا المعاصرة. فقد قام بعمل دراسات وأبحاث حول العمل، والديمقراطية، والحركات الاجتماعية، وتسمى سوسيولوجيا آلان تورين بالفاعلانية أو التدخل السوسيولوجي. كما يعرف بأبحاثه في مجال سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية، وحول نظرية الفعل، ومن أهم أعماله، عمله الرئيسي بعنوان سوسيولوجيا الفعل Sociologie de l’action. إلى جانب ذلك، له مؤلفات عديدة مثل: تطور عمل العمال في معامل رينو(1955)، الوعي العمالي (1969)، إنتاج المجتمع (1973)، المجتمع ما بعد الصناعي (1989)...إلخ.
ويعتبر انتماء آلان تورين للسوسيولوجيا بأنه لم يكن وليد الصدفة، فانتمائه كان من أجل المشاركة في تغيير العالم، وهذا ما يتجلى في مختلف أعماله السوسيولوجية، فانتمائه لهذا الحقل المعرفي يعتبر شرطا لقيام السوسيولوجيا كعلم والتزام.
ويدل مصطلح الفاعلانية على كل ما قدمه آلان تورين من أعمال، وهي طريقة سوسيولوجية تسعى إلى وضع عالم الاجتماع في موقع يمكنه من إنجاز دراسات وأبحاث حول المجتمعات الصناعية. ويشكل كتابه الذي يحمل عنوان "من أجل علم الاجتماع" pour la sociologie ميلاد التدخل السوسيولوجي الذي يهدف إلى دراسة مختلف الحركات الاجتماعية، حيث يفترض الانخراط في الحركة ودراسة الفعل من داخلها دون تبني ايديولوجية الفاعلين (القائمين بالفعل)، وهو ما عبر عنه بقوله "أقبل بالانخراط في الحركة، لكن أن أكون حرا تجاه تنظيمها".
ومن المعلوم أن التحليل الفاعلاني عند آلان تورين يرتبط بمجموعة من المفاهيم الرئيسية، منها على سبيل المثال: التاريخانية، الحركات الاجتماعية، الذات الفاعلة.
وهذه المفاهيم نجدها مترابطة فيما بينها عند آلان تورين من خلال رفضه لكل الفلسفات الاجتماعية التي حاولت تفسير المجتمع بمبدأ غير اجتماعي، مثل الوصاية الإلهية، والقانون، والحاجات الطبيعية، خاصة تلك التي اعتبرت بأن المجتمع غير مرتبط بإرادة الفاعل. لذلك يقدم لنا آلان تورين مفهوم التريخانية الذي يدل على المعنى الذي يتخذه الفعل عند الفاعل. إذ سيقوم بدراسة الفعل عند الفاعل باعتباره فعل تاريخي، يخضع للتوجهات الكبرى من خلال مقولة نسق الفعل، مركزا على التناقضات والصراعات الاجتماعية التي تحرك الفاعلين من داخل المجتمع.

وسوف يهتم آلان تورين بدراسة الحركات الاجتماعية حيث سيعرفها بأنها "فعل موجه ثقافيا وتصارع اجتماعي يقوم به فاعل معرف من خلال وضعه المسيطر أو التابع داخل امتلاك التاريخانية"، فالهدف من الحركات الاجتماعية هو تحرير الذات من الهيمنة التي يمارسها النظام على الفرد عبر تغيير العالم عن طريق العقل والتقنية والتقدم، والذات عنده تتجسد في الفاعل الاجتماعي المرتبط بالعلاقات والصراعات الاجتماعية. فالذات بالنسبة لتورين هي الفاعل "عندما يكون على مستوى الفاعلية التاريخية لإنتاج توجهات كبرى معيارية للحياة الاجتماعية". وهذه الذات هي نفسها حركات اجتماعية.
وما يميز أعمال آلان تورين أنه يدافع عن فكرة مهمة وهي ألا يصبح الفرد مثل بيدق يتم التلاعب به من طرف النظام، أي ألا يكون مستعبدا أو داخل مصفوفة يتم برمجته وفق نمط اجتماعي وإيديولوجي يخدم فئة أقلية متحكمة في وسائل الإنتاج. فالفرد عند آلان تورين يمكن أن يكون فاعلا، لأنه حر في توجهاته واختياراته وقادر على تغيير محيطه. ولا يمكن أن يكون ذاتا فاعلة إلا حينما يؤمن بفرديته على الفعل عبر تحرير نفسه من كل أشكال التحكم التي يمارسها المجتمع المبرمج.

لهذا نجد أن السوسيولوجيا مع ألان تورين تجسد نفسها كعلم وممارسة والتزام باعتبارها "معرفة نضالية" بامتياز. إنها علم للتحرر من آليات الهيمنة بكل تلاوينها وأشكالها "المادية والمعنوية" حينما يعمد السوسيولوجي إلى تفكيكها وتوضيحها للحركات الاجتماعية من أجل الدفع بها نحو التغيير بهدف امتلاك التاريخانية، لأن السبب في ذلك أن الفعل هو الذي يحدد الأوضاع والظروف، ومن المستحيل دراسة الحركات الاجتماعية من دون أن ينخرط فيها عالم الاجتماع، لأن الموضوعية الباردة بحسب آلان تورين تتعارض بشكل كبير مع حرارة الحركات الاجتماعية.

الأربعاء، 3 سبتمبر 2014

مقدمة في علم الاجتماع الحضري

مفتتح القول: 
يدخل هذا الموضوع ضمن أحد التخصصات في العلوم الاجتماعية، وهو علم الاجتماع الحضري Sociology Urbain، ويتشارك علم الاجتماع الحضري مع العديد من التخصصات العلمية كالجغرافية، والتاريخ، والسياسة، والاقتصاد، والأنثروبولوجيا، والأركيولوجيا في دراسته للمجتمع الحضري، وهو تخصص يدرس خصوصيات ومميزات الوسط الحضري ــ المديني. فهو يهتم بالمدينة كظاهرة اجتماعية في حد ذاتها. ويركز في دراسته على الشكل المادي للمدينة وكيفية نشأتها ووظائفها، كما يدرس المدينة في بعدها الثقافي خاصة على مستوى أنماط السلوك وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي تسود من داخلها (المدينة)، ومن حيث تقسيم العمل والنظام الاجتماعي ككل.
فكيف يمكن تحديد الوسط الحضري على مستوى المرفولوجي، والإحصائي، والسوسيولوجي، والوظيفي؟ 
أولا: التحديد المرفولوجي للوسط الحضري 
عندما نتأمل جيدا في البنية العمرانية للمجتمع الحضري، فإن أول ما سنلاحظه هو ارتفاع واتساع المباني السكنية، و توفرها على مراكز وخدمات مثل الصحة والتعليم وغيرها من النظم الإدارية، وأيضا توفرها على وسائل النقل والمواصلات والاتصال. ثم انتشار بضواحي المدن ما يطلق عليه بالأحياء المتخلفة أو الهامشية.
ويختلف الوسط الحضري le milieu urbain عن الوسط الريفي le milieu rural، من حيث البنية العمرانية بالدرجة الأولى، حيث توجد به بنيات ضخمة وشاهقة ومتقاربة مع بعضها البعض، وتوجد به أيضا مراكز صحية مثل المستشفيات والصيدليات، ومراكز الاتصال كالبريد ومقاهي الأنترنيت ومخادع الهواتف، ومحلات تجارية كبرى، ومراكز التعليم المتمثلة في مؤسسات التربية والتكوين المهني، والمؤسسات البنكية، والمؤسسات الحقوقية والمحاكم، إلى جانب مراكز الشرطة ومراكز إعادة التأهيل، والمؤسسات الاجتماعية مثل دار العجزة.
كما أن الوسط الحضري يتوفر على طرق المواصلات وعلى محطات لكل من الحافلات وسيارات الأجرة، والقطار، والميناء، إلى جانب شبكة طرقية واسعة، كما تتميز بانتشار الحدائق والمحميات، وملاعب رياضية، وتتوفر أيضا على دروب وأحياء وشوارع وإشارات تنظيم حركة المرور وأرصفة المشاة، وسلاة القمامة[1]، إلى جانب أنها تعرف انتشار أحياء الصفيح. كما تعرف انتشار الكتابة على الجدران أو ما يسمى ب"الغرافيتيا".
ثانيا: التحديد الإحصائي للوسط الحضري
أما فيما يخص التحديد الإحصائي للوسط الحضري، فلا شك أن المجتمع الحضري يعرف تجمع سكاني مهم ومرتفع بكبر حجمه وتعقيده، نتيجة للهجرة المتوافدة إليه بنوعيها الداخلية والخارجية تبعا لعوامل الطرد والجذب، وانخفاض في معدل الوفيات لصالح ارتفاع معدل الولادات، يمكن إرجاعها لسبب واحد وهو التغطية الصحية المتطورة التي توجد بالمدن، وعلى هذا الأساس ترتفع معدلات الكثافة السكانية في مجتمع المدينة لتصبح سمة مميزة على عكس المجتمع القروي الذي يتحدد بوجه عام بعلاقة عكسية مع الكثافة.
ويتم تحديد الوسط الحضري من خلال الاعتماد على مؤشر الكثافة السكانية، وهو مقياس يستخدم لقياس معدل تواجد السكان في منطقة ما، وذلك بتقسيم مجموع السكان على المساحة، ولكن من الصعب وضع تحديد للوسط الحضري من خلال مؤشر الكثافة السكانية، لأنه يختلف من بلد إلى بلد آخر من حيث عدد سكان المدينة، إذ تعتبر الولايات المتحدة أن العدد هو (2500) وفرنسا (3000) بينما نجد في بعض الدول الأخرى كاليابان فإنها تعتبر أن (30) ألف نسمة هو معيار العدد السكاني للمدينة، وفي كوريا (40) ألف، بينما نجد في إحدى القرى المصرية (سرس الليان) يبلغ عددها حوالي (30) ألفا وهي لا تزال تتميز بكل المظاهر الحياتية التي تتصف بها القرية[2]. في حين أن المراكز الحضرية تتميز بتنظيم معقد. مما يبدو أن مقياس الكثافة السكانية في تحديد الوسط الحضري هو أمر مبالغ فيه، لأنه لا يستند إلى أي أساس واقعي بسبب الاختلاف في تحديده وضبطه، الشيء الذي يطرح لدينا تساؤل حول ماهية التحديد الذي يتخذه الوسط الحضري في السوسيولوجيا؟
ثالثا: التحديد السوسيولوجي لمفهوم الوسط الحضري
يرى "إيميل دوركايم" Émile Durkheim أن الوسط الحضري ينبغي أن يتميز إلى جانب الكثافة الفيزيقية بالكثافة الأخلاقية، لأن التجمع السكاني ليس مثل التجمع الحيواني الذي يغيب عنها القيم الأخلاقية، فأهم ما يجب أن يتوفره داخل التنظيم الاجتماعي للوسط الحضري هي الكثافة الأخلاقية لأنها تسمح بحسب دوركايم بوجود الكثافة الفيزيقية، بينما العكس غير صحيح، فالعديد من التجمعات الحضرية التي تتميز بكثافة فيزيقية مرتفعة يغيب عنها نوع من التجانس والتضامن بين أفرادها ما يسبب أحيانا بالانتحار، وتعرف انتشارا للجريمة بمختلف أنواعها بسبب التفكك الاجتماعي، وهو عكس ما نجده بالوسط الريفي الذي يتميز بعلاقات اجتماعية متماسكة ميكانيكية يتعامل أفراد المجتمع تلقائيا ويستجيبون لبعضهم البعض.
وما يميز الوسط الحضري عند دوركايم أنه يتميز بالتضامن العضوي، فالأفراد متمايزين ومختلفين، وتابعين لبعضهم البعض، وتسود بينهم علاقات اجتماعية تعتمد على تبادل المنفعة، بخلاف الوسط  الريفي الذي يتميز بالتضامن الآلي، حيث يكون أفراد الجماعة متشابهون ويتعاملون تلقائيا ويستجيبون لبعضهم ميكانيكيا.
أما "ماكس فيبر" Max Weber فقد أوضح بأن أوربا قد بدت تشهد مجتمعات محلية حضرية تعتمد أساسا على التجارة وتتمتع بقدر ملحوظ من الاستقلال الذاتي[3]، وهذا يعني أن المحدد الرئيسي للوسط الحضري يعود إلى وجود مركز تجاري وهو السوق Marchéباعتباره شكل للتجمع البشري. فالوسط الحضري حسب ماكس فيبر هو شكل اقتصادي ينبغي أن يتوفر فيه على سوق محلي، يتجاوز الإنتاج فيه والتبادل سكان المدينة (الوسط الحضري) إذ أنه نتيجة التخصص الإنتاجي للسوق، فإن سكان القرى المحيطة يترددون عليه، ويتعاطون البيع والشراء في منتجات الحرفيين وسلع الإتجار معا، ومن الطبيعي أن يتعاطى سكان المدينة (الوسط الحضري) أنفسهم في هذا السوق البيع والشراء[4].
و يعتبر بعض السوسيولوجيين من أمثال "جورج زيمل" Georg Simmel أن المجهولية هي الميزة الأساسية للوسط الحضري، فهي تقوم على علاقات اجتماعية منفصلة ومتباعدة، فأفراد المجتمع يجهلون بعضهم البعض حتى وإن كانوا في علاقة الجيرة، فالحياة بالوسط الحضري تتسم باستقلال أفرادها، فهم غالبا ما يتميزون بصفة الفردانية والنفعية، وهذا يرجع أساسا في نظره إلى حجم المدينة التي أثرت بشكل كبير في العلاقات الاجتماعية وجعلت الفرد أكثر وعيا بذاته وأكثر حرية لكنه في الوقت نفسه هو أضعف من ناحية العلاقة مع الآخر.
ومن خلال هذا التحليل الذي قام به جورج زيمل، عمل "لويس ويرث" Louis Wirthوهو أحد السوسيولوجيين الأمريكيين وعضو ب (مدرسة شيكاغو) على تحليل حجم المدينة وتأثيرها على الحياة الاجتماعية، فوجد أن الحجم والكثافة وعدم التجانس هو ما يحدد التنظيم الاجتماعي داخل الوسط الحضري. فزيادة حجم المدينة يساهم في خلق طرق اتصال غير مباشرة لأن هناك استحالة على جمع السكان في حيز جغرافي واحد. كما أن ارتفاع عدد السكان يؤدي إلى تنوع المجتمع وإلى تقسيم العمل الاجتماعي، الشيء الذي يجعل أفراد المجتمع يتعاملون فقط وفق مجموعة من التبادلات الاجتماعية. إلى جانب ذلك فإن التنوع الاجتماعي يعمل بالضرورة إلى تحرير الأفراد من الضبط الاجتماعي الذي يمارسه أفراد الجماعة مثل ما يوجد في المجتمعات الريفية أو القروية.
وبالنسبة ل"مانويل كاستلز" Manuel Castells وهو أحد السوسيولوجيين المعاصرين، يرى أن الوسط الحضري لم يعد يقوم فقط على الحجم والكثافة السكانية وإنما أصبح يقوم على الإنتاج الاقتصادي بالدرجة الأولى، فتراكم رؤوس الأموال وتمركز النشاط الصناعي والخدماتي بالوسط الحضري جعله يلعب دورا مهما في الحياة الاجتماعية وفي استقطاب المناطق المجاورة، وفي تحويل نفسه إلى مجال ينتج ويستهلك ويتغير. 
رابعا: التحديـــد الوظيفـــــي للوسط الحضري
إذا تأملنا تعريف الجغرافي "ماكس سور" Max Sorre بأن المدينة هي المكان الذي يعيش فيه المجتمع مستقر، يكون أحيانا كبير العدد، وذا كثافة سكانية مرتفعة وأغلبهم لا يعتمدون على الزراعة، بل على الصناعة والتجارة والخدمات والمجتمع المدني يتميز بدرجة مرتفعة من التنظيم[5]. يتبين لنا أن للمدينة عدة وظائف وذلك تبعا للتجمعات البشرية التي تستقر فيها وتمارس نشاطا معينا، فالمدن تؤدي بصفة عامة مجموعة من الوظائف تختلف فيما بينها، وهي وظائف متداخلة لدرجة كبيرة وليس من السهل تحديد أي وظائف هي الأولى والسائدة في المدينة، مما يزيد الأمر تعقيدا للمدينة الحديثة محاولة تنويع وظائفها.
وعموما فإن دراستنا لوظيفة المدن لا تعني بالضرورة الوظيفة الداخلية مثل إنشاء المساكن وشق الطرقات وغيرها، بل نقصد الوظائف الكبرى مثل الوظيفة الحربية، والوظيفة السياسية، والوظيفة الاقتصادية..الخ، وسوف نحاول في هذه الورقة أن نتطرق إليها ونبين أهم الوظائف بطريقة موجزة.
أولا: الوظيفـــــة الحربيــــة للمـــــدن
من الاعتقاد عند الأركيولوجيين أن الوظيفة الحربية هي أقدم وظيفة عرفتها المدن، فأول مدينة في التاريخ كانت مدينة عسكرية، ويرجع السبب في ذلك إلى اكتشاف المعادن، هذا الاكتشاف ساهم بقوة في صناعة الأسلحة كان من ورائها الدفاع عن أمن المدينة وعلى سلامة أرضه، فالإنسان بطبيعته متعلق بأرضه، وهذا ما ردده روبير آردي بقوله أن الإنسان في جوهره حيوان حيزي متعلق بأرضه.
لا ننسى أن هذا الاكتشاف ساهم أيضا في التوسع على حساب الشعوب الأخرى من أجل استغلال ثرواتها، ويبدوا لنا أن كل من الحضارات القديمة مثل اليونان ومصر وروما والصين، أن مدنها كانت تقوم على بناء الأسوار المرتفعة كي تصد هجمات الغزاة، هذا ويمكن القول أن وظيفة المدن الحربية تنقسم إلى نوعين، وهي برية وبحرية.
أ‌. المدن البرية:
وهي مدن تعتمد عند نشوئها على اختيار موقع استراتيجي يتمثل في القرب من ينابيع المياه الصالحة للشرب، فالماء كما هو معلوم هو أساس الحياة، وأينما يوجد الماء يوجد استيطان للسكان، ومن قربها أيضا من الأراضي الصالحة للزراعة، إذ أغلب سكان المدن القديمة كانوا لهم نشاط زراعي، وقد تطور النشاط الاقتصادي عند السكان حتى شمل بعض الأنشطة الصناعية مثل الحدادة وصناعة الفخار والتجارة وغيرها من الأنشطة التي كانت تعتبر بدائية في وقت سابق كما يطلق عليها علماء الأنثروبولوجيا. 
ب‌. المدن البحرية:
وقد قامت هذه المدن بالقرب من البحار، حيث تم تأسيس مدن عبارة عن قلاع محصنة في أعلى قمم الجبال والتي بالطبع تطل على البحر، كان الغاية منها حراسة الحدود من الأعداء والغزاة القادمين من البحر، وتوفير الإمكانيات والمناورات للهجوم والدفاع في الآن ذاته، من أجل فرض الأمن بالمنطقة. وهناك مدن أخرى تأسست بتأسيس الموانئ مثال ذلك ميناء الليوطي بمدينة القنيطرة المغربية في أوائل القرن العشرين، وقد لعبت دورا محوريا في الحرب العالمية الثانية.
هذا ومع التطور التاريخي للمدن، أصبحت الوظيفة الحربية محدودة في المدن المعاصرة بعد أن كانت هذه المدن تنتشر في وقت سابق، والسبب في ذلك يرجع إلى أن فنون الحرب ووسائل النقل والمواصلات تطورت لدرجة أصبح معها من غير الضروري وجود حاميات والقلاع الحصينة على التخوم والحدود[6]، ولهذا فما نراه اليوم هي شوارع فسيحة كبرى مفتوحة للجميع بعد إزالة أسوار المدينة إلا أنها أصبحت تتوفر على قواعد عسكرية أكثر تطورا مثل مدينة ستالينغراد بالاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا حاليا.
ثانيا: الوظيفــــة السياسيـــــة للمـــــدن
إن للمدن وظائف سياسية لا تظهر بشكل طبيعي، وإنما توجد نتيجة قرار أو مرسوم مفروض، فهي عبارة عن حتمية ضرورية تاريخية رافقت نشأة المدن، فبوجودها ملازم لوظائف أخرى مثل التجارة والصناعة، والحربية.
وتلعب هذه المدن وظيفة قيادية في تدبير المجال السياسي، وغالبا تكون هذه المدن هي العواصم التي تعد رمزا من رموز الدولة، وقد تجاوزت هذه المدن من حيث وظيفتها إلى ما هو عالمي، حيث أصبحت تؤثر في القرار السياسي العالمي، نظرا لتوفرها على القوة الاقتصادية والبشرية والتكنولوجية، وأيضا القوة العسكرية.
وكلمة مدينة City هي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية  Civitas، وترادفها باليونانية كلمةPolis، وفي اللاتينية والإغريقية كانت هاتان الكلمتان تجسمان فكرة دولة المدينة  City-State، والتي لا يكون المجموع فيها كبيرا جدا مساحة أو سكانا حتى لا تحول دون الحكم الصالح[7].
وقد ارتبط مفهوم السياسة بالمجتمع المديني، وبالخصوص مع الحضارة اليونانية القديمة، إذ ذهب كل من أفلاطون(جمهورية أفلاطون) وأرسطو(السياسيات) بأنه لا يوجد مجتمع يخلو من السياسة، بمعنى آخر أن السياسة محايثة للمجتمع، فهي سياسة أناس يعيشون ويجتمعون في وسط حضري تجسدها مجموعة من القوانين يحكمون بها وتحكمهم، وهذا ما أكده أرسطو بمقولته المعروفة بأن الإنسان حيوان سياسي بطبعه.
وعند حديثنا عن الوظائف السياسية للمدن فإن تركيزنا سيكون عن العاصمة كونها تمثل المدينة السياسية، وكما أشرنا سابقا فهي مركز السلطة السياسية والسلطات الإدارية للدولة.
إذ يمكن لهذه العاصمة أن تتغير بقرار سياسي من طرف الإدارة السياسية المتمثلة في رمز الدولة، وأيضا فإن العاصمة يمكن أن تخلق من لا شيء، هذا وتعد العاصمة قوة جذب للعديد من المهاجرين القادمين من الريف إليها، مما يعطيها مكانة مرموقة وأهمية كبيرة مضاعفة من حيث الكثافة السكانية وقوة ثرائها. وطبيعيا فالعاصمة يجب أن تكون كما قال "جفرسون" jefferson من المدن المهيمنة primate cities التي يتركز بها أكبر عدد من السكان وتكون ذات عمق تاريخي ورمز للمشاعر القومية[8]، ومن المتعارف عليه عند المختصين أن هذه الهيمنة تعود لعامل مهم وهي وسائل النقل والمواصلات (المطار، طرق السيارات، الموانئ) مما يسهم بطريقة مباشرة في الزيادة من القيمة التجارية ودورها السياسي.
فالوظيفة السياسية للمدينة هي وظيفة تقريرية بالأساس في مسار السياسة الدولية سواء كانت سياسة خارجية أو داخلية، وتحاول العاصمة أن تلعب دورا بارزا في قيادة المدن ومد أطراف يدها على كل أطراف الدولة من أجل بسط سيطرتها، ويبقى اختيارها كعاصمة مرتبط بالموقع الاستراتيجي، وغالبا ما تكون هي المركز في الدولة مثل مدريد بإسبانيا، وإذا ما أخضعت العاصمة تسقط أطراف البلاد كما وجد عبد الرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر ميلادي[9]، وهذا ما نتأمله في عالمنا المعاصر مثل احتلال العراق من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وسقوط عاصمتها بغداد سنة 2003.
إن نمو العاصمة وتضخم حجمها مع وظيفتها السياسية تشكل لنا مدينة من الصعب التغلب عليها وإضعافها، فهي تمثل رمز الصمود، خصوصا إن كانت العاصمة تتوفر فيها المجال العسكري والاقتصادي والاجتماعي.
ثالثا: الوظيــــــفة الاقتصــــاديـــة للمـــدن
في هذه الورقة سنحاول أن نوضح الوظيفة الاقتصادية للمدن، وسوف نركز أساسا على الوظائف الأساسية التي تعتمدها المدن، بحيث لا يعني هذا أن نتطرق إلى الوظيفة الزراعية للمدينة، فالوظيفة الزراعية هنا تمارس في ظروف خاصة ومعينة ترتبط بالعالم العميق أي العالم القروي، وبالتالي فإننا سوف نتطرق فقط إلى الوظيفة التجارية والوظيفة الصناعية.
أولا: الوظيفة الصناعية
من المعلوم أن هذه الوظيفة ظهرت وتعددت بالأساس في العصر الحديث نتيجة الثورة الصناعية الآلية الحديثة التي أدت إلى تجمع عدد هائل من السكان، ففي العصر الحديث عرفت الصناعات الحضرية نموا كبيرا، أدى بذلك إلى نمو الوظيفة الصناعية والعمل على استغلالها، ويمكن هنا أن نميز بين نوعين من الصناعة تعرفها جل المدن وهي:
أ‌. الصناعة التعدينية:
وقد أنشئت حيث وجدت المعادن دون النظر إلى بقية الظروف البيئية الأخرى، وتعتبر هذه الصناعة من أقوى الصناعات، فهي تساهم في خلق المدن، فهذه الصناعة يمكن القول بأنها تدين بوجودها للتركيب الجيولوجي، وبالتالي فإن مدن المعادن هي أكثر جذبا للناس بسبب المكاسب التي تقدمها للناس على نحو سريع (الذهب).
ب‌. الصناعة التحويلية:
توجد هذه الصناعة في كل مدينة وذلك بغرض تلبية حاجيات سكانها المرتفع، فهذه الصناعة هي مدنية بالضرورة، وتخلق بدورها العديد من المدن الجديدة.
ثانيا: الوظيفية التجارية
يمكن اعتبار هذه الوظيفة هي المحرك الأساسي للمدينة فلا يمكن أن نتصور مدينة بغير نشاط تجاري، فالتجارة هي وظيفة قاعدية لا يمكن تجاهلها، فاكتشاف التجارة أدى بدوره إلى اكتشاف المدينة، ومن ثم ظهرت طبقة من التجار المحليين والدوليين وأصحاب الحرف الصناعية.
والمدينة المعاصرة الآن أصبحت تقوم بوظائف متنوعة في المجال التجاري، فهي تقوم بهمزة وصل بين الأقاليم المجاورة، بحيث تساهم في تصدير المنتجات المصنعة وغير المصنعة، وهذا لعامل مهم هو توفرها على وسائل النقل وعلى بنية تحتية متقدمة، كما أنها تستورد من الأقاليم المجاورة أكثر مما تصدره، ثم لا ننسى أنها تتوفر على مراكز أبناك كبرى تساعدها على استقطاب رؤوس الأموال من أجل استثمارها.
إن هذا الدور التي تقوم به المدينة التجارية يساهم فيها بشكل كبير عامل مهم، هو عامل يرتبط بالموقع الاستراتيجي، فجل المدن تبحث لنفسها على موقع يكون الأسهل والأقرب على استيراد وتصدير البضائع وغيرها، حتى أننا أصبحنا نسمع عن مدن عائمة تتوفر على موانئ ومطارات، هذا ونجد بعض المدن التجارية تحاول أن تتوسع على حساب البحر مثل ما يوجد في دولة هولندا. 
رابعا: الوظيفـــــــة المعرفيــــــة للمــــدن
أصبحت مدن المعرفة بشكل أو بآخر مع بداية الألفية الثالثة تفرض أساليب جديدة في مستوى أنماط العيش، مثل تطوير مباني تعتمد على التقنية الذكية لكي تتعايش مع مختلف الظواهر البيئية كالزلازل وانفجار البراكين والأعاصير...إلخ، واعتمادها على الطاقة البديلة مثل الطاقة الشمسية، إلى جانب أنها تقوم بتدبير وإدارة المؤسسات والشركات بنوعيها العمومي والخصوصي بشكل رقمي.
ويقصد بالمدن المعرفية أو مدن المعرفة، تلك المدن التي تعتمد على المعرفة، وتتميز بتوفرها على مؤسسات للتعليم والمكتبات، ومؤسسات البحث العلمي، وشبكة لتبادل المعلومات والاتصال، وشبكة كثيفة لطرق المواصلات بمختلف أنواعها لتيسير الحركة. وهي مدن تعمل على تشجيع المشاريع التي تهدف إلى استثمار التقنية العالية (الذكية) لتسهيل مجموعة من الخدمات لأفراد المجتمع خاصة ما يتعلق بالتبادل التجاري. كما أنها مدن تستفيد من العلوم الاجتماعية ومن العلوم التكنولوجية بهدف تطورها وانسجامها مع تطلعات المجتمع.
هذا ويمكن إيجاز الفوائد الأساسية لمدن المعرفة في النقط الآتية[10]:
ـ دعم الحراك الابتكاري القوي عبر جميع القطاعات والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية.
ـ تقديم خدمات تعليمية أفضل.
ـ دعم المشاركة الفاعلة للمواطنين في تنمية مدينتهم والحفاظ على هويتها وشخصيتها الفريدة.
ـ التحول إلى نمط اقتصادي أكثر استدامة.
ـ خلق بيئة رحبة تسع الأقليات والمهاجرين.
ـ تفعيل ممارسة الديمقراطية.
ختام القول:
يمكن أن نقول من خلال ما سبق، أن الوسط الحضري هو نوع من المجتمع المحلي الذي يتميز بالتعقيد والتباين وعدم التجانس وتقسيم العمل وتنوع في الأنشطة الاقتصادية، ويتميز بكثافة سكانية مرتفعة مع ظهور أحياء ومباني شاهقة متداخلة فيما بينها، وتعرف انتشار لمراكز الاتصال والمؤسسات التعليمية، والبحث العلمي، والصحية والإدارية إلى جانب تنوع في طرق المواصلات واعتمادها على التقنية العالية (الذكية) في تدبير شؤونها. ويتسم المجتمع الحضري بمجموعة من الخصائص مثل الفردانية وضعف العلاقات القرابية وسيادة العلاقات السطحية، وممارسة ما نسميه ب"ثقافة الاصطياد" داخل التجمع الحضري، حيث أصبح الفرد يسعى وراء كل شيء بسبب تعقد الحياة وصعوبتها، سواء بطريقة شرعية أو غير شرعية لتحقيق غاياته وأهدافه التي تتمثل في امتلاك الرأسمال الرمزي أو المادي.
......................
الهوامش:
[1] . ستيفن سايدمن، شوارع بيروت: الذات والمواجهة مع الآخر، ترجمة مهما بحبوح، إضافات، المجلة العربية لعلم الإجتماع، تصدر عن الجمعية العربية لعلم الإجتماع بتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية، العدد الخامس شتاء، 2009، ص 44.
[2] . عرب دعكور، تاريخ المجتمع الريفي والمدني، دار المواسم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 2004، ص 48.
[3] . عبد الرؤوف الضبع، علم الاجتماع الحضري: قضايا وإشكاليات، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر،الإسكندرية ـ مصر، الطبعة الأولى 2003، ص 36.
[4] . رجاء مكي طبارة، مقاربة نفس ـ اجتماعية للمجال السكني، دراسة ميدانية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1995، ص 60.
[5]. عرب دعكور، تاريخ المجتمع الريفي والمدني، مرجع سابق، صفحة 47.
[6]. أحمد علي إسماعيل، دراسات في جغرافيا المدن، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة 1988، صفحة 166.
[7]. جمال حمدان، جغرافية المدن، عالم الكتب، الطبعة الثانية منقحة، صفحة 82.
[8]. فايز محمد العيسوي، الجغرافيا السياسية المعاصرة، دار المعرفية الجامعية، صفحة 147.
[9]. عدنان السيد حسين،الجغرافية السياسية والاقتصادية والسكانية للعالم المعاصر، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،الطبعة الثانية 1996، صفحة 29.
[10]  . فرانشيسكو خافيير كارللو، مدن المعرفة المداخل والخبرات والرؤى، ترجمة خالد علي يوسف، سلسلة عالم المعرفة (381)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، أكتوبر 2011، ص 26.

الأنثروبولوجيا وعلاقتها بالعلوم الإنسانية

الأنثروبولوجيا علم حديث ظهر في القرن 19م، في إطار التطور الذي عرفته العلوم الاجتماعية في أوربا الغربية، حيث اهتم هذا التخصص في تلك الفترة بالمجتمعات غير الأوربية، ونقصد بذلك المجتمعات البدائية أو المجتمعات الصغيرة والمعزولة عن طريق مجموعة من المستكشفين والعسكريين، والتي كان مخطط لها من قبل الدول الغربية بغاية توطين الاستعمار بها واستغلال ثرواتها خاصة المجتمعات الإسلامية.
وكلمة الأنثروبولوجيا Anthropology هي كلمة مكونة من مقطعين، الأول Anthropoوتعني الإنسان، والثانية Logy وتعني علم أو دراسة؛ أي علم الإنسان أو دراسة الإنسان.
وتعد الأنثروبولوجيا كما هو معلوم من العلوم الاجتماعية التي تهتم بدراسة الإنسان ككائن ثقافي، تصدر منه مجموعة من التصرفات، والسلوكات، والأفكار، والرموز، والعادات والمعتقدات، التي تساعده على العيش في المجتمع الذي ينتمي إليه. فهي علم تهتم بدراسة تاريخ المجتمعات الإنسانية، وتهتم أيضا بدراسة الإنسان ككائن طبيعي وثقافي واجتماعي وحضاري.
من هنا يظهر لنا بوضوح أن الأنثروبولوجيا تهتم بالإنسان في أبعاده المختلفة، الشيء الذي يجعلنا نطرح التساؤل التالي وهو ما علاقة الأنثروبولوجيا بالعلوم الأخرى؟ 
أولا: علاقة الأنثروبولوجيا بالبيولوجيا
تعتبر البيولوجيا أحد العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا، ويشكل الإنسان مع الكائنات الحية الأخرى المادة الخام للدراسة البيولوجية التي قد تكون على شكل ستاتيكي أو دينامي، فهو العلم الذي يدرس الإنسان من حيث بنية الأعضاء وتطورها، ويرتبط هذا العلم بالتشريح والفيزيولوجيا وعلم الوراثة، حيث يعتبر هذا الأخير من أهم الموضوعات التي تهتم بها البيولوجيا لأنها تعمل على تفسير تطور الإنسان من خلال ما يسمى بالمادة الحية، ويدخل في هذا الإطار نظرية التطور التي ترى أن الكائنات الحية تخضع لعملية التغير من أشكال بسيطة إلى أشكال معقدة تختلف في مستوى عددها وجنسها وشكلها. هذا وترى أن التطور الإحيائي عند الإنسان يحدث نتيجة لعدة أسباب منها ما يتعلق بالطفرة والانعزال والتهجين.
والأنثروبولوجيا في هذا المستوى من الناحية النظرية هي قريبة نوعا ما من البيولوجيا، فكلاهما يحاول أن يدرس عملية إعادة إنتاج الحياة، وكلاهما يتبنى نموذج نظري للتنوع وهما: التنوع الجيني بالنسبة للبيولوجيا والتنوع الثقافي والاجتماعي بالنسبة للأنثروبولوجيا. كما أن كلاهما يبحث في الأصل، فالبيولوجيا تبحث في أصل مادة الحياة عند الكائنات، بينما الأنثروبولوجيا تبحث في أصل المجتمعات الإنسانية.
ثانيا: علاقة الأنثروبولوجيا بالسيكولوجيا
السيكولوجيا أو علم النفس، هو علم يهتم بسلوك الإنسان، فعلم النفس يحاول هنا دراسة سلوك الأفراد الذين يقومون به، إنه علم دراسة الذات، والتي تسعى إلى التعبير عن نفسها من خلال مجموعة من الأنشطة، والهدف من دراسة النفس الإنسانية هو التعرف على مكوناتها وحاجاتها وإمكانية تهذيبها وتطويرها. فهو علم يصف السلوك الصادر من الإنسان ويحاول تفسيره وتوضيح أسبابه ونتائجه ...إلخ.
ويهتم علم النفس "بالمبادئ والقوانين العامة التي تحكم سلوك الإنسان السوي، ومن الموضوعات الرئيسية التي يهتم بها علم النفس العام الدافعية والانفعالات والذكاء والقدرات العقلية كالإدراك والتفكير والذاكرة والانتباه، وكذلك يهتم بالتعلم والشخصية"[1]. كما يهتم بالمبادئ الأساسية المساهمة في النمو عند الإنسان ابتداء من لحظة ميلاده مرورا بفترة الطفولة والمراهقة ووصولا إلى مرحلة الشيخوخة، حيث يعمل على توضيح العوامل المؤثرة في عملية النمو سواء أكانت وراثية أو بيئية مرتبطة بالمجتمع ككل.
ونجد الأنثروبولوجيا تتشارك مع علم النفس في دراستها للسلوك الإنساني لكن ضمن الإطار الثقافي والاجتماعي والحضاري الذي ينتمي إليه ويعيش فيه. إلى جانب أنه يدرس تأثير البيئة على سلوك الأفراد، إذ نجد أن سلوك الأفراد بالبادية يختلف كثيرا عن سلوك الأفراد بالمناطق الحضرية.
وضمن الأنثروبولوجيا يظهر لنا أحد فروعه وهو الأنثروبولوجيا النفسية، ويتضمن هذا الفرع دراسة علاقة الفرد بالثقافة والمجتمع فهو يدرس سلوك الإنسان في جماعة بشكل عام، أما علم النفس فيركز على الفرد بشكل خاص. هذا ويوجه الاهتمام في الأنثروبولوجيا النفسية بدراسة "الشخصية والتغير الثقافي والدراسة المقارنة للتغير المرتبط بالنمو على امتداد دورة حياة الفرد ودراسة مفهوم الهوية... ومن المؤثرات النظرية الأساسية في الأنثروبولوجيا النفسية نظرية فرويد أو التحليل النفسي"[2]. 
ثالثا: علاقة الأنثروبولوجيا بالسوسيولوجيا
السوسيولوجيا أو علم الاجتماع، هو علم حديث تم تأسيسه على يد المفكر الفرنسي أوكست كونت في القرن 19، وهو علم وليد الأزمة، نتج عن الانتقال إلى المجتمع الحديث، والذي ارتبط أساسا بالثورة الفرنسية وهو ما عبر عنه جون ديفينيو بقوله بأن علم الاجتماع هو ابن الثورة.
ويعرف أوكست كونت علم الاجتماع بأنه العلم الذي يدرس الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية. أما إيميل دوركايم فيرى أن علم الاجتماع هو العلم الذي يدرس الوقائع الاجتماعية، والنظم الاجتماعية باعتبارها أشياء قائمة بالفعل، وليست نتيجة لتصورات تعتمد على مفاهيم ذاتية. أما رينيه مونيه فقد عرف علم الاجتماع بأنه "الدراسة الوصفية المقارنة التفسيرية للمجتمعات الإنسانية حسب ما تسمح به مشاهدتها في الزمان والمكان"[3].
وموضوع علم الاجتماع هو الظاهرة الاجتماعية التي ينتجها المجتمع؛ أي دراسة الإنسان ككائن اجتماعي باعتباره عضوا في أحد المؤسسات الاجتماعية كالأسرة والمدرسة والمجتمع المدني والمؤسسات الدينية أو باعتباره عضوا في أحد المؤسسات السياسية كالحزب أو في الإدارات الحكومية. كما يهتم بدراسة القيم والمظاهر المنحرفة مثل الجريمة. ويهتم أيضا بالحركات الاجتماعية كالثورات والانقلابات وأي تغير أو تحول يطرأ في المجتمع أو في مؤسسة معينة. وهذا ما أدى إلى ظهور مجموعة من الفروع التي تدخل ضمن علم الاجتماع العام مثل علم الاجتماع التربوي، علم الاجتماع الحضري، علم الاجتماع القروي، علم الاجتماع السياسي، علم الاجتماع التنظيمي ... إلخ.
وترتبط الأنثروبولوجيا بعلم الاجتماع منذ القرن 19، حيث تتعدد مظاهر هذا الارتباط في وجود فرع متخصص هو الأنثروبولوجيا الاجتماعية. وهذا الأخير يطلق "على التراث المهيمن في الأنثروبولوجيا البريطانية. وذلك وفقا لتأكيد العلماء البريطانيين على مفاهيم مثل: المجتمع والبناء الاجتماعي والتنظيم الاجتماعي"[4].
وإذا كان علم الاجتماع يهتم في دراسته بالمجتمعات ذات التنظيم المعقد مثل المجتمعات الصناعية، فإن الأنثروبولوجيا الاجتماعية تهتم في دراستها بالمجتمعات ذات التنظيم البسيط مثل المجتمعات الصغيرة، فهي تنصب في دراستها على الشعوب التي تختلف كثيرا عن ما يسمى بالدولة، بمعنى آخر أنها تهتم بالمجتمعات البدائية أو المجتمعات التي لا تعرف الكتابة والقراءة أو المجتمعات العشائرية أو القبلية، بهدف التعرف على أصول النظام الاجتماعي لهذه المجتمعات، والفروق الاجتماعية التي تميزها عن بعضها البعض. وهذا ما جعل مجموعة من الباحثين يرون أن الأنثروبولوجيا الاجتماعية هو فرع من فروع علم الاجتماع نظرا للتشابه بينهما في دراسة المجتمع.
رابعا: علاقة الأنثروبولوجيا بالتاريخ
يعد علم التاريخ من أهم العلوم الاجتماعية، نظرا لأنها تساهم في مد علماء هذه العلوم بجذور الفكر الإنساني منذ آلاف السنين، وهذا ما يظهر بوضوح العلاقة التي تجمع بين التاريخ والأنثروبولوجيا بصورة مميزة. فدراسة الإنسان ككائن ثقافي واجتماعي وتاريخي لا يمكن أن يتم إلا من خلال انفتاح الأنثروبولوجيين على تحليلات المؤرخين والتي تتناول مجموعة من القضايا المتعلقة بالمجتمعات الإنسانية ككل.
هذا ومن المؤكد أن الظاهرة الإنسانية هي في حد ذاتها ظاهرة تاريخية، تقوم على ثلاثة أسس وهي الزمان والإنسان والمكان. إذ لا يمكن تصور الفعل التاريخي للإنسان خارج عن هذه الأسس. فالزمن هو الذي يعطي للفعل الإنساني صفتها التاريخية. أما المكان فهو المسرح الاجتماعي الذي تقوم فيه الأحداث. أما الإنسان فهو محور كل شيء وهو صانع التاريخ بهذا المعنى.
وما يميز التاريخ أنه "يدرس الأحداث الإنسانية الفريدة غير متكررة المرتبطة بزمان معين ومكان معين"[5]، بينما الأنثروبولوجيا يمكن لها أن تدرس الظواهر الإنسانية المتكررة والمتعددة في الماضي والحاضر وفي أي مكان.
وتمتد جذور العلاقة بين التاريخ والأنثروبولوجيا في بروز أحد فروع الأنثروبولوجيا كالأنثروبولوجيا التاريخية. وفي استخدام هذا الفرع ما يسمى بالمنهج التحليلي المقارن، الذي يعتبر من أهم مناهج البحث العلمي للأنثروبولوجيا، لأنها تعمل على دراسة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بصورة عامة.
إن الأنثروبولوجيا كباقي العلوم الاجتماعية تسعى إلى دراسة الإنسان في تطوره وتغيره في كل المستويات، فهي تبحث في أصول الإنسان، ولا يمكن لها إلا من خلال التاريخ، فدراسة ماضي الإنسان بالرغم من تعقده يساهم بشكل أو بآخر في فهم حاضره والتعرف على مستقبله. 
خامسا: علاقة الأنثوبولوجيا بالسميائيات
السميائيات في أبسط معانيها تعني البحث عن المعنى، فهي علم حديث ما زال في طور التأسيس غرضه دراسة العلامات والرموز داخل الحياة الاجتماعية. حيث يحاول هذا العلم أن يستفيد من العلوم الإنسانية كالليسانيات وعلم النفس في تفسير وظيفة العلامة والقوانين التي تحكمها. فالغرض من السميائيات كعلم هو دراسة العلامات التي ينتجها الأفراد المنتمين إلى جماعة معينة أو مجتمع معين، وخاصة تلك العلامات التي تستخدم في التواصل بين الأفراد.
والعلامة بطبيعتها تأخذ شكلين، شكل رمزي مرتبط بالفعل اللساني، وشكل مادي مثل علامات المرور أو الملصقات، وهي علامات كلها تهدف إلى التواصل مع الأفراد.
وترتبط الأنثروبولوجيا بالسميائيات ارتباطا وثيقا منذ بداية القرن الماضي نظرا لاهتمام كل منهما بدراسة وتحليل العلامات التي ينتجها الإنسان، وكلاهما يساهم بشكل كبير في تفسير المعاني والخطابات الرمزية والمادية التي يؤسسها الإنسان مع أخيه الإنسان. إذ يركزان في دراستهما على سلوك الإنسان باعتباره كائن ثقافي رمزي بالدرجة الأولى. إلى جانب ذلك فكلاهما يستفيدان من بعضهما البعض من حيث المناهج العلمية.
ـ وفي ختام القول، نخلص إلى أن الأنثروبولوجيا كباقي العلوم الاجتماعية مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، والتاريخ ... إلخ. تهدف إلى دراسة الإنسان ووضعه قلب الاهتمام، فهي علم متعدد الأبعاد ومنفتح على باقي العلوم. هذا ونرى أن فهم الإنسان لا يمكن إلا من خلال إخضاعه للدراسة الميدانية، فالإنسان كائن فريد من نوعه بالرغم من أوجه الشبه مع باقي الكائنات الحية.
........................
الهوامش:
[1] د. صالح حسن أحمد الداهري و د. وهيب مجيد الكبيسي، علم النفس العام، دار الكندي للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الأولى (بدون سنة نشر) ص 25.
[2] د. سعاد علي حسن شعبان، الأنثروبولوجيا الثقافية لأفريقيا، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة، 2004، ص 12 ـ 13.
[3] رينيه مونيه، المدخل في علم الاجتماع، ترجمة السيد محمد بدوي، الإسكندرية، 1949، ص 4.
[4] د. سعاد علي حسن شعبان، الأنثروبولوجيا الثقافية لأفريقيا، مرجع سبق ذكره، ص 13.
[5] د. محمود عودة، أسس علم الاجتماع، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، بيروت، ص 35.